هل نعيش داخل سيناريوهات مكتوبة سلفًا؟
منذ فجر الوعي، والبشر يطرحون السؤال ذاته بأشكال مختلفة: هل نحن أحرار في مساراتنا، أم أننا محكومون بسيناريوهات خفية، نعيد تمثيلها جيلاً بعد جيل، كأننا ممثلون على خشبة مسرح كوني ضخم؟ قد يبدو السؤال بسيطًا للوهلة الأولى، لكنه في العمق يمسّ معنى الحرية، مغزى القدر، وحدود الإبداع البشري.
هناك نظرية مثيرة للدهشة تقول إن كل القصص الإنسانية – مهما اختلفت الأزمنة والأمكنة – لا تتعدى بضع عشرات من الحبكات الأساسية. الناقد الفرنسي جورج بولتي في القرن التاسع عشر، بعد مراجعة هائلة للأدب والأساطير، خلص إلى أن العالم لا يحتوي سوى على 36 حبكة درامية. وفي رأيه، كل ما نقرأه ونسمعه ونعيشه ما هو إلا إعادة صياغة لهذه الحبكات الكبرى. ما بين قصة الانتقام، والبحث عن الحقيقة، والتضحية من أجل الآخر، والصراع مع السلطة… كلها لا تتعدى أشكالًا متكررة من السيناريو الأصلي.
لكن بولتي ليس وحده من لامس هذه الفكرة. عالم النفس كارل يونغ قدّم نظريته عن "النماذج الأولية" (Archetypes)، التي تنبثق من اللاوعي الجمعي للبشرية. في أعماق كل نفس، كما يرى، يسكن "البطل"، و"الظل"، و"الأم الكبرى"، و"الحكيم". وهذه الصور الرمزية ليست مجرد أدوات تحليل نفسي، بل هي سيناريوهات كبرى تعود لتتشكل في قصصنا، في اختياراتنا، بل في أحلامنا.
أما في الفلسفات الشرقية، فنجد تفسيرًا أكثر ميتافيزيقيًا: الأرواح تعود وتتجسد مرارًا، لتعيد اختبار الدروس نفسها عبر سيناريوهات كرمية محددة. كأن القدر مدرسة، يعيد امتحانك حتى تُتقن الدرس. قد تُولد اليوم في سيناريو الضحية، وغدًا في سيناريو المعلم، وبعد غدٍ في سيناريو الباحث عن الحقيقة.
بين النص والأداء
لكن هنا يبرز السؤال: إذا كانت هذه السيناريوهات مُحددة مسبقًا، فأين حريتنا؟ هل نحن مجرد دُمى تسير وفق نص أزلي، أم أن لنا دور المخرج الذي يعيد كتابة المشاهد؟
الجواب، في ظني، ليس أبيض أو أسود. قد يكون النص موجودًا، لكن الأداء ملك لنا. ما المانع أن يكون الإنسان وُضع في حبكة "المنفي"، لكنه يختار أن يحوّلها من مأساة إلى رحلة نحو الحكمة؟ أو أن يُكتب له دور "الباحث عن الحقيقة"، فيؤديه لا كقصة شخصية فحسب، بل كملحمة إنسانية تلهم من حوله؟
النص قد يكون قدريًا، لكن طريقة الأداء، نبرة الصوت، تفاصيل الحركة، حرارة المشاعر، كلها مساحة حقيقية للحرية. كما في المسرح: النص نفسه يمكن أن يُقدّم تراجيديا دامية أو كوميديا ساخرة، حسب الممثل.
تعددية السيناريوهات
الإنسان أيضًا ليس كائنًا أحادي المسار. نحن لا نعيش حبكة واحدة فحسب، بل مجموعة حبكات متداخلة في الوقت ذاته. في صباح اليوم نفسه قد تكون "الباحث عن الحقيقة" وأنت غارق في كتاب أو مشروع بحثي، وفي الظهيرة "المعالج" وأنت تستمع لصديق مثقل بالهموم، وفي المساء "المنفي" وأنت تواجه صمتك الداخلي ووحدتك.
هذه التعددية ليست تناقضًا، بل ثراء. لعلها السبب في أن حياتنا تبدو متاهة معقدة لا يمكن اختزالها في خط مستقيم. نحن شبكة من القصص، تتقاطع وتتشابك، تصنع لوحة فسيفسائية لا يشبهها شيء.
السيناريو كقيد… وكحرية
قد يرى البعض في هذه النظرية قيدًا خانقًا: إذا كانت حياتنا لا تخرج عن 36 حبكة، فما قيمة الإبداع إذن؟ لكن النظرة الأعمق تكشف أن التكرار لا يلغي التفرد. تمامًا كما أن الحروف محدودة، لكن الكلمات التي نؤلفها منها لا نهائية. أو كما أن النوتات الموسيقية معدودة، لكن المقطوعات التي تولد منها تملأ العالم بالدهشة.
السيناريوهات قد تكون أشبه بـ"بنية تحتية"، أرضية مشتركة، لكننا نحن من نزرعها، نلونها، ونُعيد رسم معالمها. الحرية لا تعني اختراع حبكة جديدة من الصفر، بل أن نعيش الحبكة الممنوحة لنا بعمق ووعي وأسلوب فريد.
وعي السيناريو
الأهم ربما أن نعي وجود هذه السيناريوهات. حين ندرك أننا نعيد تمثيل "حبكة قديمة"، نصبح أكثر قدرة على التحكم بها. بدل أن نكون أسرى لا واعين، نصبح ممثلين يقظين، نختار كيف نؤدي أدوارنا.
حين تدرك أن حياتك تُعيد حبكة "البطل والظل"، يصبح صراعك مع مخاوفك أكثر وضوحًا. وحين تكتشف أنك في سيناريو "التضحية"، تستطيع أن تختار بوعي: هل ستقدم نفسك قربانًا عبثيًا، أم ستجعل من تضحيتك معنى عميقًا؟
السؤال المفتوح
فهل نحن مبرمجون لنعيش ضمن سيناريوهات محددة؟ ربما نعم، لكن البرمجة ذاتها أكثر رحابة مما نظن. قد تكون حياة كل إنسان مكتوبة في شكل حبكة أساسية، لكنها ليست نسخة طبق الأصل عن حياة الآخر. النصوص تتكرر، لكن الأداء يختلف.
وهنا يكمن سرّ الإنسان: في القدرة على تحويل القدر إلى إبداع، والسيناريو إلى مسرح مفتوح على الدهشة. نحن لا نهرب من الحكايات الكبرى، بل نعيد كتابتها على طريقتنا، نترك بصمتنا الخاصة على نص أزلي لا يموت.
الخلاصة: نحن لسنا كائنات بلا حرية، ولسنا آلهة مطلقة الحرية أيضًا. نحن أشبه بكتّاب مسرحيات صغار، نُعطى خطوطًا عريضة، لكننا نختار الألوان، نعيد تشكيل المشاهد، نمنح القصة نبضنا الخاص. وفي النهاية، ربما تكون أعظم حرية هي أن نؤدي دورنا بوعي، ونصنع من السيناريو قدرًا يشبهنا، لا قدَرًا يبتلعنا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق